الدستور جسدٌ، روحه الميثاقية
د. علي محمود الموسوي
Friday, 29-Aug-2025 07:28
عندما اخترت أن يكون عنوان مقالي: «قراءة مكمّلة في مقال الميثاقية: بين الشرعية والدستورية»، المنشور في «الجمهورية» (22/08/2025)، لم أنوِ أن يكون ردّاً على ما كتبه الدكتور سليم الزيبق (20/08/2025)، بل رأيت أنّ النصّ الذي كتبه جسدٌ يحتاج روحاً تبعث فيه الحياة. وبهذا المعنى اعتبر الفقيه الدستوري إدمون ربّاط، أنّ أهم ما في الدستور هو روحه. فعنده، أنّ «روح الدستور» تعني المبادئ والقيم الأساسية التي توجّه تطبيق الدستور، وتشكّل جوهر النظام الدستوري، وتتجاوز مجرد النصوص الحرفية للنصوص الدستورية.

إنّ النقاش حول الميثاقية في لبنان ليس مجرّد جدل قانوني محدود بين رجال القانون، بل هو نقاش سياسي ـ فلسفي ـ دستوري يلامس صميم الكيان اللبناني. فالبلد الذي قام على عقد شراكة بين طوائفه، لا يمكن أن يستمر إلّا إذا ظلّت هذه الشراكة حيّة وفاعلة. لذلك، فإنّ أي بحث في الشرعية أو المشروعية أو الدستورية لا يكتمل من دون التطرّق إلى الميثاقية باعتبارها ضماناً أساسياً لاستمرار الدولة.

 

لقد جاء ردّ الدكتور الزيبق على الملاحظات التي وُجّهت إلى مقاله، متيناً في بنيته القانونية، لكنّه ركّز على الشكل أكثر من الجوهر، وأغفل، في رأينا، حقيقة أنّ الميثاقية ليست قاعدة تقنية بل فلسفة حكم. وفي هذا السياق، نسعى إلى إظهار أنّ النقاش أبعد بكثير من مجرّد تفسير مادة دستورية أو التمسّك بإجراء شكلي. ولعلّ في ما سنختم به مقالنا من أمثلة توضيحاً لمرادنا.

 

1- الشرعية والمشروعية والدستورية: تفريق لا بدّ منه

 

الخلط بين المفاهيم الثلاثة كثير الحدوث في الخطاب اللبناني:

 

• الشرعية: هي مدى قبول المجتمع للسلطة، وهي مرتبطة بالرضى السياسي ـ الاجتماعي، لا بالنصوص وحدها.

• المشروعية: هي مطابقة القرارات للقوانين المرعية.

• الدستورية: هي مدى توافق القوانين مع الدستور الأعلى.

 

إنّ المعضلة في لبنان أنّ السلطة قد تكون مشروعة ودستورية شكلاً، لكنها فاقدة للشرعية إذا ناقضت ميثاق العيش المشترك، وبالتالي تفقد دستوريتها إذا فقدت شرعيتها. وهذا ما يُفسّر إدراج الفقرة «ي» في مقدمة الدستور بعد «اتفاق الطائف» لتجعل من الشرعية نفسها قيمة دستورية، أي لتربط القانون بالعيش المشترك ربطًا لا فكاك منه. وقد أكّد الدكتور الزيبق هذا في مقاله الأول وفي الردّ على مقالنا السابق، إذ قال: «أشرنا إلى أنّ مقدمة الدستور، ومنها الفقرة «ي»، تُعتبر بحسب اجتهاد المجلس الدستوري جزءاً لا يتجزّأ من الدستور».

 

2- الميثاقية بين النصّ والواقع

 

إنّ إدخال عبارة «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك» في مقدمة الدستور لم يحلّ الإشكال، بل نقله من السياسة إلى الدستور. بقيت الميثاقية عُرضة للتأويل: هل هي شرط شكلي لتوزيع المقاعد؟ أم هي جوهر المشاركة الفعلية؟

 

إنّ النصّ وحده لا يكفي، فقد برهنت التجربة اللبنانية منذ «الطائف» أنّ الأعراف والتوافقات كانت أقوى من المواد الدستورية أحياناً. تؤمّن النصوص الإطار، لكنّها لا تضمن الروح. وهذا ما يجعل الميثاقية مبدأ حيّاً يتجاوز حدود الكتابة.

 

3- المناصفة والتمثيل: بين الشكل والجوهر

 

إعتبر الدكتور الزيبق أنّ المناصفة وتوزيع الرئاسات وتمثيل الطوائف في الحكومة تكفي لتجسيد الميثاقية. لكنّ هذا توصيف ناقص. فالمشاركة ليست حضورًا شكليًا، بل هي انخراط فعلي في صناعة القرار.

 

تُظهر نظرية الديموقراطية التوافقية أنّ الضمانات الشكلية لا تكفي. المشاركة الفعلية هي الأساس. وفي لبنان، كم من حكومة ضمّت وزراء من كل الطوائف لكن قراراتها الجوهرية اتُخذت من دون شراكة فعلية، ما جعلها تفقد الميثاقية على رغم من اكتمال الشكل.

 

4- المادة 65: بين النصّ والأعراف

صحيحٌ أنّ المادة 65 من الدستور وضعت نصاب الثلثين لبعض القرارات، ومنحت إمكانية إسقاط الحكومة باستقالة ثلث أعضائها، لكنّ التجربة السياسية أثبتت أنّ الأعراف في لبنان أقوى من النصوص.

فقد شهدنا مراراً تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية على رغم من اكتمال النصاب العددي، بذريعة غياب التوافق. وهذا يثبت أنّ الميثاقية ليست محصورة بالمادة 65، بل هي أوسع من ذلك، وهي عرف سياسي يعلو أحياناً على النصّ المكتوب.

 

5- السلطة والقرار: جدلية الشرعية والمشروعية

 

إنّ تمييز الدكتور الزيبق بين شرعية السلطة ومشروعية القرار منطقي من حيث النظرية. لكنه في لبنان لا يكفي. فإذا اتخذت حكومة شرعية شكلاً قراراً مصيرياً بغياب طائفة أساسية، فإنّ القرار يفقد شرعيته، حتى لو بقي مشروعاً.

الشرعية هنا لا تُقاس بمطابقة الإجراء للنصّ، بل بمدى تعبيره عن العيش المشترك. وهذا جوهر الفقرة «ي».

 

6- الإنسحاب الطوعي والإقصاء الفعلي

 

يقول الدكتور الزيبق، إنّ فقدان الشرعية يحصل فقط إذا استُبعدت طائفة من قبل السلطة، لا إذا انسحبت هي بنفسها. لكنّ الانسحاب الطوعي غالبًا ما يكون نتيجة شعور بالإقصاء أو تجاهل الهواجس. وبالتالي، فإنّ التمييز بين الحالتين غير واقعي.

 

في عام 2006 مثلاً، إنسحب الوزراء الشيعة من الحكومة. لم يكن ذلك خياراً عبثياً، بل تعبيراً عن فقدان الثقة بأنّ مشاركتهم مؤثّرة. وهكذا، حتى الانسحاب «الطوعي» يُسقط الميثاقية لأنّه يكشف عمق الخلل في المشاركة.

 

7- المخاطر العملية لتغييب الميثاقية

 

إنّ تغييب الميثاقية أو اختزالها إلى نصّ شكلي يحمل مخاطر جسيمة:

1. تعطيل المؤسسات بفعل الانسحابات المتكررة.

2. فقدان الثقة الشعبية بالسلطة.

 

3. تسييس القضاء إذا أوكل إليه الفصل في الشرعية.

4. تهديد العقد الاجتماعي الذي يقوم عليه لبنان.

 

8- مقارنات دولية

• سويسرا: التوافق شرط أساسي، والقرارات المصيرية لا تمرّ من دون جميع المكوّنات.

• بلجيكا: التعطيل الطويل (أكثر من 500 يوم بلا حكومة) يثبت أنّ التوافق أثمن من النصوص.

• البوسنة: مثال سلبي، حيث أدّى غياب التوازن إلى شلل دائم.

لبنان أقرب إلى هذه النماذج، لكنه أكثر هشاشة بسبب الطائفية.

 

9- المبادئ الكبرى: الاستمرارية والمصلحة العامة

إنّ المبادئ التي ختم بها الدكتور الزيبق مهمّة: إستمرارية السلطات، الدستور لخدمة الناس، حسن إدارة التعددية. لكنّها لا تتحقق من دون الميثاقية. فالاستمرارية من دون شراكة تتحوّل هيمنة، والمصلحة العامة من دون توافق تتحوّل مصلحة أكثرية، وإدارة التعددية من دون ميثاقية تتحوّل وهماً.

 

بين النصوص والواقع اللبناني

 

المثال الأول:

جاء في المادة (95) من الدستور أنّ وظائف الفئة الأولى وما يعادل الفئة الأولى تكون مناصفة بين المسيحيين والمسلمين في الوظائف العامّة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة. هذا التوزيع لا ينطبق على الفئات الأخرى، وكلنا يعلم أنّ ملف تعيين مأموري الأحراج- مثلاً- ظلّ قابعاً في الأدراج لأنّ هذه الخطوة لا تُراعي التوازن الطائفي بحسب رافضيها.

 

المثال الثاني:

قرار رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بتأجيل العمل بالتوقيت الصيفي في آذار من العام 2023، ما دفع ببكركي إلى إصدار بيان اعتبرت فيه أنّ القرار المفاجئ بتأجيل العمل بالتوقيت الصيفي لمدة شهر، الصادر عن رئيس حكومة تصريف الأعمال السيد نجيب ميقاتي، إرتجالي ومن دون التشاور مع سائر المكوّنات اللبنانية، وصدرت عن رؤساء أحزاب وشخصيات مسيحية مواقف، منها ما دعا الحكومة إلى التراجع عن هذا القرار، ومنها دعا إلى عصيانه، وذهب بعضهم إلى القول: «في الأمس قلنا: لنا لبناننا ولكم لبنانكم والآن نقول، لنا توقيتنا ولكم توقيتكم». هذه المواقف وغيرها حدت بالرئيس ميقاتي إلى إصدار بيان جاء فيه: «نظراً للظروف المستجدة المتعلقة بمحاولة البعض جرّ البلاد إلى انقسام طائفي لتأجيج الصراعات، ولأننا نتحمّل المسؤولية الدستورية بقناعة وطنية ولكن من دون أن نسمح بجرّنا إلى الانتحار أو إلى ما لا يشبه قناعاتنا، لكل هذه الأسباب نعلن إلغاء جلسة مجلس الوزراء التي كانت مقرّرة الاثنين».

 

فإذا كان من شأن قرار حكومي من هذا النوع يتعلّق بتقديم الساعة أو تأخيرها أن يأخذ البلاد إلى انقسام طائفي لتأجيج الصراعات بحسب الرئيس ميقاتي، فما بالكم بقرار يتعلّق بقضية مصيرية قد لا يتحقق معها إعلاء مصلحة الوطن والدولة كما يريد الدكتور الزيبق ونحن، في حال استمرّ هذا النهج الحكومي؟!

 

خاتمة

إنّ النقاش حول الميثاقية ليس مجرّد تفسير دستوري. إنّه نقاش حول هوية لبنان: هل هو ديموقراطية أكثرية أم ديموقراطية توافقية؟ هل يُحكم بالعدد أم بالشراكة؟

 

الجواب واضح من التجربة: لا شرعية لأي سلطة أو قرار يناقض العيش المشترك، نصّاً وروحاً. الميثاقية ليست قيدًا على الديموقراطية، بل هي شرط وجودها. وهي ليست ذريعة للتعطيل، بل ضمان لمنع الانفجار.

 

إنّ لبنان لا يُحكم إلّا بالميثاقية، لا باعتبارها مادة دستورية فحسب، بل باعتبارها فلسفة حكم تُجسّد العيش المشترك. من دونها، يفقد الدستور روحه، وتفقد الدولة معناها.

الأكثر قراءة